النساء في الثورة الروسية
بدلت الثورة الروسية حياة النساء تمامًا وسددت ضربة قوية للتمييز القائم
على أساس الجنس بشكل لم تنجزه أي ثورة سابقة أو لاحقة. إن الامتيازات التي
حصلت عليها النساء خلال الشهور الأولى التي تلت أكتوبر 1917، مثل الحق في
الإجهاض، والزواج المدني، والخُلع، ودعم الدولة للمرأة الحاضنة، وإلغاء
العمل ببعض القوانين التشريعية المجحفة، والمساواة في الأجور مع الرجال،
وإجازة الأمومة لكل النساء، وإلغاء سن الرشد، وتوفير الدولة المطاعم
والمغاسل العامة ودور رعاية الأطفال (الحضانات)، كلها إنجازات لم تتحقق بعد
بشكل كامل في أي مكان في العالم حتى الآن بعد مرور أكثر من تسعة عقود.
لكن تلك الانتصارات، على أهميتها، ما هي إلا جانب من القصة. فمن العوامل
الهامة التي ساهمت في تغيير وضع المرأة داخل المجتمع الروسي، المشاركة
الجماعية للنساء، إلى جانب الرجال، في النضال الثوري ضد النظام القيصري
وأرباب الأعمال الذين تسلطوا عليهم بظروف عمل شديدة القسوة وتمييز جنسي
مريع.
التحول الهائل في المواقف والممارسات داخل المجتمع كانت نتيجة حتمية
للسيطرة الديمقراطية للطبقة العاملة على المجتمع، ما أكد صحة مقولة لينين
بأن الثورات هي “عيد المضطهدين”. كانت الاحتجاجات التي قادتها العاملات في
فبراير 1917 هي الشرارة التي أشعلت الثورة. ففي يوم المرأة العالمي، أضربت
النساء العاملات عن العمل، غير ملتفتات ولا مبالايات بتحذيرات رفاقهم من
الرجال، وخرجن في مسيرة جابت شوارع بتروجراد، وطالبن الآخرين بالانضمام
لهن. وكانت مطالبهن إنهاء الحرب، ووضع حد لارتفاع الأسعار والجوع والحرمان
الذي تحمله العمال.
إحدى الروايات المتناقلة تصف كيف “توقفن جميعهن عن العمل، ثم غادرن
المصانع، وانتقلن سريعًا في مجموعات كبيرة من مصنع إلى آخر.. كانت النساء
[يقذفن] بكل ما طالته أيديهن (حجارة وكرات ثلج وعصي) نوافذ وأبواب المصانع
كما [اقتحمن] المباني”.
حفزت تحركاتهن غيرهم من العمال على الانضمام إليهن ليس فقط في الإضراب،
ولكن أيضًا في البدء في تشكيل هياكلهم الديمقراطية الخاصة لمواجهة النظام
وأرباب الأعمال والحرب، تلك الحرب التي كان الأغنياء على استعداد للتضحية
من أجلها بأعداد لا تُعد ولا تُحصى من العمال، ولإفقار كثيرين غيرهم.
وبحلول أكتوبر، تمكنت هذه الهياكل، التي عُرفت بإسم “السوفييتات” أو
المجالس العمالية، من الإطاحة ببقايا الحكم الرأسمالي وإقامة دولة عمالية
ديمقراطية.
ونظرًا لتسخير أعداد ضخمة من الرجال للمشاركة في الحرب، شكلت النساء
نسبة كبيرة من الطبقة العاملة الروسية، وصلت إلى حوالي 40% في بتروجراد،
وكانت مشاركتهن النشطة من الأسباب الحاسمة في نجاح الثورة. ولأن الانضمام
للسوفييتات كان طوعيًا، كان الاحترام المتبادل والمساواة بين جميع الأعضاء
من العوامل الهامة لنجاحها.
قادهم هذا لمراجعة كثير من الأحكام المسبقة المنحازة ضد المرأة والتي
طالما كانت مُعتمَدةً ومعمولًا بها قبل الثورة. فكرة أن دور المرأة الطبيعي
هو القبوع في المنزل لتنشئة الأطفال، أو أن عليهن الإذعان لسلطة الرجال،
أصبح يُنظر إليها بإعتبارها أفكار تتعارض مع مصالح العمال.
رصدت إحدى القائدات البلشفيات هذا التغيير في أحد الاجتماعات مع شباب
الثوار، حيث سجلت الآتي: “كان من بين الأمور التي على الجميع تعلمها
الحياكة. عندها سأل زميل بلشفي شاب: “لماذا علينا جميعًا أن نتعلم الخياطة؟
الفتيات، بطبيعة الحال، يجب أن يتعلمنها، وإلا لن يتمكنّ من تثبيت الأزرار
على سراويل أزواجهن فيما بعد، لكن لماذا نتعلمها نحن جميعًا؟”.
“أثارت هذه الكلمات عاصفة من السخط بين المجتمعين، حيث أعرب الجميع،
وليست الفتيات فقط، عن استيائهم، وأخذوا يتماوجون غضبًا على مقاعدهم. “على
الزوجة خياطة أزرار السراويل؟! ماذا تعني؟ هل تريد التمسك بالاستعباد
القديم للنساء؟ الزوجة هي رفيقة الزوج، وليست خادمته!”. وأمام هذا السخط
الجماعي لم يكن أمام الفتى صاحب الاقتراح سوى الاستسلام”.
ولأن البلاشفة كانوا القوة السياسية الأكثر التزامًا بأحقية العمال في
السلطة عام 1917، كانوا أيضًا التنظيم الذي كرّس جهدًا كبيرًا لتنظيم
النساء العاملات. لقد نظموا العاملات في مهنة غسيل الملابس (الغسالات)
وزوجات الجنود، وهما فئتين من أكثر الفئات النسائية المسحوقة. طبعوا كتيبات
ووزعوا نشرات تتناول الظروف القاسية التي تحيط بالنساء العاملات. لقد
اعترف البلاشفة بالرابطة الوثيقة بين مصير سلطة العمال وتحرير المرأة.
في أكتوبر، كان للنساء دورًا في الثورة، فانضممن للحرس الأحمر وشاركن في
اقتحام قصر الشتاء. وكانت مسئولية تنظيم حركة الترام في بتروجراد أثناء
الثورة من نصيب الشابة البلشفية العاملة ألكسندرا روديونوفا، التي وصفت
التأثير الكبير للثورة على حياتها وحياة غيرها من النساء، قائلة: “شعرت أن
حياتي المألوفة التي اعتدتها تتهاوى، وكنت فرحة وسعيدة بانهيارها”.
لكن لاحقًا، دُمرت كل مكتسبات الثورة. فقد محت ثورة ستالين المضادة
كل آثار سلطة العمال، ومعها المكاسب التي تحققت للنساء. لكن هذا لا يقلل
بأي حال من الأحول من الإنجازات الثورية للعمال في عام 1917، ولا يمحو ما
تركوه لنا من تبصّر بقدرة الثورات العمالية على هزيمة كل أشكال الظلم
الاجتماعي.
تتعمّد أغلب الكتابات السائدة عن الثورة تهميش أو تجاهل دور جماهير
العمال، ولا سيما دور العاملات. ويهدف أصحاب هذه الكتابات من المؤرخين
للتشكيك في السياسات الجذرية والفعل الجماهيري وتشويههما، للاستكانة إلى
الوضع الراهن. لكن ثورة 1917 أثبتت أن هناك بديلاً ممكنًأ للرأسمالية.
فقد أوضحت لنا الثورة الروسية كيف يتصدر المُضطهَدون المشهد ليعيدوا
تشكيل المجتمع بالنضال الثوري، وكيف يمكن تحدي تلك الأحكام المسبقة
والتحيزات ضد المرأة، وكيف يمكن أن تقوض الطبقة العاملة كل أشكال الظلم
والاضطهاد. إن استيعابًا وفهمًا حقيقيًا لهذه العملية واجبٌ حتميٌ على كل
المؤمنين بقضية تحرير المرأة.
* المقال منشور باللغة الإنجليزية في 12 فبراير 2014، بجريدة “الراية الحمراء” – تصدرها منظمة البديل الاشتراكي الأسترالي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق